صعود الصين- تحدٍ للنظام الإمبريالي أم تهديد عسكري؟

المؤلف: د. جيسون هيكل08.20.2025
صعود الصين- تحدٍ للنظام الإمبريالي أم تهديد عسكري؟

على امتداد العقدين المنصرمين، شهدت نظرة الولايات المتحدة إلى الصين تحولًا جذريًا، من التعاون الاقتصادي المتبادل إلى عداء سافر وواضح. انخرطت وسائل الإعلام الأمريكية، جنبًا إلى جنب مع السياسيين، في خطاب عدائي متواصل ضد الصين، في حين عمدت الحكومة الأمريكية إلى فرض قيود تجارية وعقوبات اقتصادية مشددة، بالإضافة إلى سعيها الدؤوب لتعزيز وجودها العسكري بالقرب من الأراضي الصينية. تسعى واشنطن جاهدة إلى إقناع الرأي العام بأن الصين تمثل تهديدًا وجوديًا.

صحيح أن صعود الصين المتسارع يشكل تحديًا للمصالح الأمريكية، لكن ليس بالصورة التي تحاول النخب السياسية الأمريكية رسمها وتسويقها.

لفهم طبيعة العلاقة المعقدة بين الولايات المتحدة والصين، يجب وضعها في الإطار الأوسع للنظام الرأسمالي العالمي. ففي هذا النظام، يعتمد تراكم الثروات ورأس المال في الدول المركزية، التي يطلق عليها غالبًا "الشمال العالمي"، على استغلال العمالة الرخيصة والموارد الوفيرة القادمة من الأطراف وأشباه الأطراف، أي ما يعرف بـ"الجنوب العالمي".

هذا الترتيب الهيكلي ضروري وحاسم لضمان تحقيق أرباح طائلة للشركات متعددة الجنسيات التي تهيمن على سلاسل التوريد العالمية. كما أن التفاوت المنهجي في الأسعار بين المركز والأطراف يسمح للدول المركزية بالاستحواذ على حصة كبيرة من القيمة من الأطراف من خلال التبادل التجاري غير المتكافئ على الصعيد الدولي.

منذ ثمانينيات القرن الماضي، عندما فتحت الصين أبوابها على مصراعيها للاستثمار والتجارة الغربية، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من هذا الترتيب العالمي، حيث وفرت مصدرًا غزيرًا للعمالة الرخيصة للشركات الغربية، عمالة تتميز بكونها ليست فقط منخفضة التكلفة، بل أيضًا ذات مهارات عالية وإنتاجية فائقة.

على سبيل المثال، يعتمد جزء كبير من إنتاج شركة آبل على العمالة الصينية الماهرة. ووفقًا لأبحاث الاقتصادي دونالد أ. كليلاند، إذا اضطرت شركة آبل لدفع أجور للعمال الصينيين والآسيويين الشرقيين مماثلة لأجور العامل الأميركي، لكانت تكلفة إنتاج جهاز الآيباد الواحد سترتفع بمبلغ إضافي قدره 572 دولارًا في عام 2011.

لكن خلال العقدين الماضيين، شهدت الأجور في الصين ارتفاعًا ملحوظًا وكبيرًا. ففي عام 2005 تقريبًا، كانت تكلفة العمالة الصناعية في الساعة في الصين أقل من نظيرتها في الهند، حيث لم تتجاوز دولارًا واحدًا في الساعة. أما اليوم، فقد قفزت الأجور في الصين إلى أكثر من 8 دولارات في الساعة، بينما لا تزال في الهند تقارب دولارين فقط. بل في الواقع، أصبحت الأجور في الصين أعلى منها في أي دولة نامية أخرى في قارة آسيا، وهو تطور تاريخي بالغ الأهمية ويستحق الدراسة والتحليل.

يعزى هذا التحول الجوهري إلى عدة أسباب رئيسية. أولها أن فائض العمالة الهائل في الصين قد تم استيعابه تدريجيًا ضمن اقتصاد العمل المأجور، مما أدى إلى تعزيز القدرة التفاوضية للعمال بشكل كبير.

وفي الوقت نفسه، قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بتوسيع دور الدولة في الاقتصاد، من خلال تعزيز أنظمة الخدمات العامة، مثل الرعاية الصحية والإسكان العام، الأمر الذي ساهم في تحسين وضع العمال، ودعم قوتهم الاقتصادية والاجتماعية.

هذه التغييرات تمثل تطورات إيجابية بالنسبة للصين، وخاصة للعمال الصينيين، لكنها في المقابل تشكل مشكلة حقيقية لرأس المال الغربي. فارتفاع الأجور في الصين يفرض قيودًا صارمة على أرباح الشركات الغربية التي تعمل هناك أو التي تعتمد على التصنيع الصيني في تزويدها بالأجزاء الوسيطة ومدخلات الإنتاج الأساسية.

أما المشكلة الأخرى بالنسبة لدول المركز، فهي أن ارتفاع الأجور والأسعار في الصين يقلل من تعرضها للتبادل غير المتكافئ. ففي حقبة الأجور المنخفضة خلال تسعينيات القرن الماضي، كان معدل صادرات الصين إلى وارداتها مع دول المركز مرتفعًا للغاية، مما يعني أن الصين كانت تضطر إلى تصدير كميات هائلة من السلع من أجل الحصول على الواردات التي تحتاجها.

أما اليوم، فقد انخفض هذا المعدل بشكل ملحوظ، مما يمثل تحسنًا كبيرًا في شروط التبادل التجاري لصالح الصين، ويضعف بشكل كبير قدرة دول المركز على الاستحواذ على القيمة من الصين.

بالنظر إلى كل ما سبق، فإن الرأسماليين في الدول المركزية يعيشون الآن حالة من اليأس، ويسعون جاهدين لفعل أي شيء لاستعادة قدرتهم على الوصول إلى العمالة الرخيصة والموارد الوفيرة.

أحد الخيارات المتاحة، والذي يتم الترويج له بشكل متزايد في الصحافة الاقتصادية الغربية، هو نقل الإنتاج الصناعي إلى مناطق أخرى في آسيا حيث تكون الأجور أقل بكثير.

لكن هذا الخيار محفوف بالمخاطر ومكلف من حيث فقدان الإنتاج، والحاجة إلى توظيف وتدريب عمال جدد، والاضطرابات الأخرى التي قد تطرأ على سلاسل الإمداد.

الخيار الآخر هو محاولة إجبار الأجور الصينية على الانخفاض مجددًا. ومن هنا تأتي المحاولات الحثيثة من قبل الولايات المتحدة لتقويض الحكومة الصينية وزعزعة استقرار الاقتصاد الصيني، بما في ذلك من خلال الحرب الاقتصادية والتهديد المستمر بالتصعيد العسكري.

من المفارقات العجيبة أن الحكومات الغربية تبرر أحيانًا معارضتها للصين بحجة أن صادرات الصين رخيصة للغاية.

وغالبًا ما يُدّعى أن الصين "تغش" في التجارة الدولية من خلال خفض سعر صرف عملتها، اليوان الصيني (الرنمينبي)، بشكل مصطنع.

بيد أن المشكلة في هذا الطرح هي أن الصين تخلت عن هذه السياسة منذ حوالي عقد من الزمن. وكما أشار خبير الاقتصاد في صندوق النقد الدولي، خوسيه أنطونيو أوكامبو، في عام 2017:

"في السنوات الأخيرة، بذلت الصين جهدًا مضنيًا لتجنب انخفاض قيمة الرنمينبي، وقد ضحت بكمية كبيرة من احتياطاتها النقدية. وقد يشير هذا إلى أن هذه العملة، إذا كان هناك شيء يمكن قوله، فهي الآن مبالغ في تقييمها".

وقد سمحت الصين في نهاية المطاف بخفض قيمة العملة في عام 2019، عندما فرضت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تعريفات جمركية باهظة، مما زاد الضغط على الرنمينبي. لكن هذا كان رد فعلٍ طبيعيًا على تغير في ظروف السوق، وليس محاولة للتلاعب بسعر الصرف وتخفيض قيمة الرنمينبي إلى ما دون مستواه السوقي العادل.

لقد دعمت الولايات المتحدة الحكومة الصينية إلى حد كبير في الفترة التي كانت فيها عملة الصين منخفضة القيمة، بما في ذلك من خلال القروض المقدمة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لكن الغرب انقلب بشكل حاسم ضد الصين في منتصف العقد الثاني من الألفية، في اللحظة نفسها التي بدأت فيها البلاد ترفع أسعارها وتتحدى موقعها كمورد هامشي للمدخلات الرخيصة ضمن سلاسل الإمداد التي يهيمن عليها الغرب.

العنصر الثاني الذي يغذي عداء الولايات المتحدة تجاه الصين، هو التقدم التكنولوجي المذهل الذي حققته الصين. فقد استخدمت بكين السياسة الصناعية بحكمة لإعطاء الأولوية القصوى للتطور التكنولوجي في القطاعات الإستراتيجية على مدى العقد الماضي، وحققت بالفعل تقدمًا مذهلاً يشهد به القاصي والداني.

فهي تمتلك الآن أكبر شبكة للقطارات فائقة السرعة في العالم، وتصنع طائراتها التجارية الخاصة، وتقود العالم في تكنولوجيا الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية، وتتمتع بتقنيات متقدمة للغاية في مجالات الطب، والهواتف الذكية، وإنتاج الرقائق الدقيقة، والذكاء الاصطناعي، وغيرها الكثير. لقد كانت الأخبار التكنولوجية القادمة من الصين مذهلة وسريعة الإيقاع، وتثير الإعجاب والدهشة.

وهذه إنجازات لا نتوقعها عادة إلا من الدول ذات الدخل المرتفع، لكن الصين تحققها رغم أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لديها يقل بنسبة تقارب 80% عن متوسط ما تحققه الاقتصادات "المتقدمة".
وهذا أمر غير مسبوق في تاريخ الاقتصاد العالمي.

يمثل هذا تطورًا مقلقًا للغاية للدول المركزية، لأن أحد الأعمدة الأساسية للترتيب الإمبريالي هو حاجتها الماسة إلى الحفاظ على احتكار التكنولوجيا الضرورية، مثل السلع الرأسمالية، والأدوية، وأجهزة الكمبيوتر، والطائرات، وما إلى ذلك.
هذا الاحتكار يجبر "الجنوب العالمي" على البقاء في موقع التبعية، حيث يضطر إلى تصدير كميات هائلة من موارده المنخفضة القيمة من أجل الحصول على هذه التكنولوجيا الأساسية. وهذا هو ما يبقي على عملية الاستحواذ الصافي للدول المركزية من خلال التبادل غير المتكافئ.

أما اليوم، فإن التطور التكنولوجي المتسارع في الصين بات يكسر هذا الاحتكار الغربي، وقد يمنح الدول النامية الأخرى موردين بدلاء للسلع الأساسية، بأسعار أكثر قدرة على التحمل. وهذا يمثل تحديًا جوهريًا لترتيب السيطرة الإمبريالية ولنظام التبادل غير المتكافئ.

لقد ردت الولايات المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية تهدف إلى شل التطور التكنولوجي في الصين. حتى الآن، لم تنجح هذه العقوبات في تحقيق أهدافها؛ بل على العكس من ذلك، زادت من الحوافز لدى الصين لتطوير قدراتها التكنولوجية السيادية.

ومع تحييد هذا السلاح إلى حد كبير، ترغب الولايات المتحدة في اللجوء إلى التحريض على الحرب، حيث يتمثل الهدف الأساسي في تدمير القاعدة الصناعية الصينية، وتحويل رأس المال الاستثماري والقدرات الإنتاجية الصينية نحو قطاع الدفاع.

إن ترامب، والغرب من ورائه، لا يسعون إلى الحرب مع الصين، لأن الصين تشكل تهديدًا عسكريًا على الشعب الأميركي، بل لأن التطور الصيني يقوض المصالح الراسخة لرأس المال الإمبريالي. الادعاءات الغربية بأن الصين تشكل نوعًا من التهديد العسكري ليست سوى دعاية محضة لا أساس لها من الصحة. فالوقائع المادية على أرض الواقع تروي قصة مختلفة تمامًا وتكشف زيف هذه الادعاءات.

في الواقع، فإن الإنفاق العسكري للصين للفرد الواحد أقل بكثير من المتوسط العالمي، ويعادل عُشر ما تنفقه الولايات المتحدة وحدها. صحيح أن الصين تملك عددًا كبيرًا من السكان، ولكن حتى من حيث القيم المطلقة، فإن الكتلة العسكرية المتحالفة مع الولايات المتحدة تنفق على القوة العسكرية أكثر من سبعة أضعاف ما تنفقه الصين. كما أن الولايات المتحدة تمتلك ثمانية رؤوس نووية مقابل كل رأس نووي واحد تملكه الصين.

قد تكون لدى الصين القدرة على منع الولايات المتحدة من فرض إرادتها عليها، لكنها لا تملك القدرة على فرض إرادتها على بقية العالم بالطريقة التي تفعلها الدول المركزية. إن السردية التي تزعم أن الصين تشكل نوعًا من التهديد العسكري هي مبالغ فيها إلى حد بعيد وتفتقر إلى المصداقية.

وفي الواقع، العكس هو الصحيح. فالولايات المتحدة تمتلك مئات القواعد والمنشآت العسكرية حول العالم، وعدد كبير منها متمركز بالقرب من الصين؛ في اليابان وكوريا الجنوبية. أما الصين، في المقابل، فلا تمتلك سوى قاعدة عسكرية واحدة في الخارج، تقع في جيبوتي، ولا تمتلك أي قاعدة عسكرية بالقرب من حدود الولايات المتحدة.

علاوة على ذلك، لم تطلق الصين رصاصة واحدة في أي حرب دولية منذ أكثر من 40 عامًا، في حين أن الولايات المتحدة، خلال هذه الفترة، غزت أو قصفت أو نفذت عمليات عسكرية لتغيير الأنظمة في أكثر من اثنتي عشرة دولة في الجنوب العالمي.

وإذا كانت هناك دولة تشكل تهديدًا حقيقيًا ومعروفًا للسلام والأمن العالميين، فهي الولايات المتحدة بلا منازع.

إن السبب الحقيقي وراء التحريض الغربي على الحرب هو أن الصين تحقق تنمية سيادية شاملة، وهذا يقوض الترتيب الإمبريالي الذي يعتمد عليه تراكم رأس المال الغربي. والغرب لن يسمح بانزلاق القوة الاقتصادية العالمية من بين يديه بهذه السهولة، وسيبذل قصارى جهده للحفاظ على هيمنته.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة